تحت ضوء القمر و بين الشموع الخافتة في لأحياء غرناطة، و على إيــقاع الصاجاتتهتز الأندلس و تغني و تصفق و تطرق الأرض برجلبها، فهي تعبر عن معاناة شعب غجري كتب عليه الشقاءفي عصر كانت إسبانيا قد انقسمت إلى قسمين من الديانات الإسلامية و المسيحية. فهؤلاء الغجر لجاوا إلى طريقة في التعبير عن مآسيهم و معاناتهم. فكان انعكاس مشاعرهم يختصر في تبنيهم للجيتار العربي و نغم الأناشيد البيزنطية، و التماس روحهم بنوع من الارتجال الماساوي. فهم يعتقدون أن آلهة أجدادهم المصريين القدامى هم من أعطوهم سر الحياة و الموت و الأكثر من ذلك سر الصاجات.
الأصل و المعنى
أصل كلمة فلامينكو غامض، فالبعض يعتقد أنها كلمة كلمة من اصل قصطيلي من كلمة flama و معناها اللهب، و البعض الآخر يرى أنها من أصل عربي من ( فلح منكو). على أي حال الكلمة لم تظهر إلا متأخرا في وسط القرن التاسع عشر.
في الواقع، هذا الفن لا يعتبر نوعا من الغناء أو الرقص أو حتى احتفالا، بل إن الفلامينكو هو نوع من الانضباط و التحكم بالنظرات و مجابهة الحياة و الموت.
فن من قلب المعاناة
لقد عانى الشعب الغجري كثيرا. فعندما سقط آخر عرش للعرب و بعد أن كانت هذه الأرض، أرض تسامح، أصبحت تنفذ أوامر الكنيسة الجبارة التي كانت تشن حملة ضد المسلمين و الغجر فتعرضوا للقتل و هتك العرض و المطاردة المستمرة. من هنا يبدأ صوت يشكو الألم على شكل نشيد حزين نابع من ألم عميق، يقول أحد الغجريين( مانويل توري Manuel Torre): " هذه الأناشيد منبثقة من المآسي و العذاب".
و لشدة هذه الصدمات و لشدة كتم البكاء، تقوم تلك الغجرية فتطرق قدميها و أصابعها معبرة عن ألمها و عذابها بالرقص.
يتلاشى الفلامينكو من هذه الساحة حتى يظهر في العام 1800 في المقاهي. و بدأ يكون له قاعدة يمشي عليها، فأصبح للفلامينكو قوانين يتعلمها الفرد. ربما أنه فقد نوعا من التلقائية أو العضوية و لكنه أصبح فنا.
ثلاثي الفلامينكو: الحركة - الأقاويل - اللحن
( مانويلا كاراسكو Manuela Carasco) البالغة من العمر الثانية عشر، ليست كأي طفلة عادية، بالكاد تكون جميلة، أحبت هذا الفن العريق. فهي على وشك أن تصبح باهرة الرقص لتسحر أعيننا، يشغلها أمر مهم، و هو أن تصبح ذات يوم في ( الأمايا الكبرى ). فتصحب كل حركة تقوم بها تلك الفتاة نظرة ثائرة، فتضم قبضتي يديها مصدرة أصواتا بأصابعها، و من ثم تثابر الرقص... الفلامينكو.
نستطيع ان نرى نجمات الفلامينكو في صالة مليئة بالمرايا حيث تتجاوب الراقصات مع انعكاسات صورهن، تقوم الطفلة بتقويس خصرها إلى أقصى حد، ترفع رأسها و تمد ظهرها، و تتخيل نفسها ( كارمن أمايا Carmen Amaya) - الغجرية التي حظيت بإعجاب هوليود- و على أول نغمة لوتيرة الجيتار تقوم الطفلة بكل ما لديها من اصابعها، يديها، ظهرها، ضربات كعب حذائها، تسرع بالحركات، و من ثم يأتي التصفيق الذي يتناسب مع إيقاع قدميها و من ثم يصرخ المغني ( Cantaor ). يداه ممدودتان يكلمها، فيقول: " اسكبي دموعهك في المنديل فأحمله للجواهري في غرناطة"، أو يقول: يقولون إنني أمشي حزينا، و لكنهم لا يعلمون أنني أمشي للموت. فهو يكلمها عن معاناة شعب. ففي حي ( تريانا)، قاموا بقتل الغجر لكونهم غجرا فقط، و هناك المزيد من هذه الأقاويل التي ولدت من الشارع، وأديت من المقاهي، فتشكل الاغنية عن طريث هذه الأقاويل المتضاربة، فإما أن تكون الأغنية ( el cante) خارجة من الصميم ( Jondo ) أو خفيفة ( chico) و ذلك يعتمد على الملقي بلحظة ( duente) الاستنزال.و مع رقة هذه الراقصة ، فإننا لا نراها إلا مجموعة من الحركات، حركات مصرها هو مكدة الشعب، إنها الغجرية ذات القدمين الحافيتين.
تدربت ألف مرة، تمرنت على كل حركة للأصابع، للكتف، لليدين... و مع كل هذا فهي ترتجل، تستمع، توحي لعـــازف الجيتار، فكأ، نقــــاوة الرقص دورية بين ثلاث: يكــــلّم الــ ( Cantaor) الراقصة ( Bailaora ) ، فتجيبه، و عازف الجيتار يتناغم معهما. و هذه هي الحرية المطلقة للمغتي و الراقصة و لعازف الجيتار... من هنا يأتي الفلامينكو.
توفيت ( كارمن أمايا ) حين كان عمرها خمسين عاما، بعد أن نفد كل ما لديها من طاقة، فقد كانت ترقص كل يوم حتى أفرغت قوتها و آلامها.
إعداد : أنوار الرضوان - الكويت
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق