الحياة حلوة

نصوص    ALWANJAMILA 3:43 م   

   رأيت فيما يرى النائم : 

أنّ حربا أتت على كل شيء ، و دمّرت ما على الأرض ممّا أنجزه الإنسان و بناه .. يظهر في المنام و لم يقل لي ذلك أحد ، إنما هو ممّا يلقى في الفهم عند النوم ، أن الساسة و العسكر تهوّروا هذه المرّة شيئا ما ، و أطلقوا أسلحتهم المدمّرة و استعملوا آخر أوراقهم العسكرية و فتحوا حقائبهم النووية السرّية و عبثوا فيها ، فما كان لهذه الأرض إلاّ أن تتصدع ، و لتلك السماء إلا أن تتوارى و تختفي .. و دمّرت النار المحرقة ما لم تحطّمه موجات الانفجارات الصوتية المتلاحقة .. 

    كل النتوءات التي تعالى بها الإنسان ليبرز على سطح الأرض و يناطح بها السماء ، تمّ تسويّتها ، تراكمت آلاف الجثث في كل مكان ، و ربما الملايين ، فلا أحد يسمع الآن شيئا منذ آخر عهد للناس بصوت أول الانفجارات الكبيرة التي توالت إثر بعضها البعض ، صمت الكون و لم يبق في آذان الذين نجوا من الهلاك العارم إلا أزيز متواصل ، الأبصار لم تعد ترى شيئا غير الدمار في كل ناحية ، و قد انتبهت مصدومة ، مشدوهة شاخصة .. ترى من غير وعي بما ترى و الأزيز يدوّي في الآذان .. يا لهول الكارثة..

   لا أحد يخطر بباله فكرة إنقاذ مصاب أو البحث عن ناجين أو حتى الاجتماع من جديد بالأهل و الأقارب و الأصحاب .. لم يعدلذلك معنى ، لماذا ينقذون ..لماذا يسعفون .. و لماذا يبحثون .. كل شيء انهار و تدمّر ، لا معنى للحياة ، الآن .. هل كانت الحياة تسبق هذا الموت أم العكس .. أسئلة الموت تفاقمت و غطّت على كل صور الحياة ، أو ما تبقّى من حياة .. الكارثة أعظم ، لم تعد الحياة هنا إلا أسئلة أمام الحيرة و الجهل ، و غدا الموت صورا بكل صور اليقين الرّاسخة و الواقعة ..

    في لحظة دمّر الإنسان ما بناه الإنسان خلال دهور و عصور .. و في لمحة تقف البشرية في لحظة عدم .. الساعة الصفر ، لا رصيد للإنسان و لا تعريف و لا هوية ، ماذا تنفع الهويّة ..إذا كان هذا الإنسان لم يعد يعي طبيعته ، الآن حقبقته غدت مجهولة ، انقطعت علائقه ، تكاثرت أسئلته ، هل هو الإنسان الوحش المتوحش الذي دمّر .. هل هو الإنسان الضحية الذي تدمّر .. هل هو الحاضر الذي لم يعد يعني شيئا ، أم أنه التاريخ الذي وصل به إلى هذه اللحظة و انقطع ..و هل يُغني التاريخ في الفصل بين التوحش و الإنسانية أو الجمع بينهما ؟؟ ..

   أسئلة العقل مستمرّة ، ما زال شيء ما يعمل .. يكثّّف أسئلة الحيرة و الجهل ، يستعيد الصّور .. صورا ممّا كان قبل هذه اللحظة العدمية التي هو فيها .. كأنه يبحث عن الحقيقة في العدم ..هو يكثّف الأسئلة ويريد أن يحصٍّل نظريا كمٍّية من الإجابة المفترضة ، كأنه يريد إنتاج بعض من المعرفة و استدراك الذات و لكنّه في لحظة العدم تلك ، يقسم عدده المفترض الكبير على العدم ، فلا يحصل على شيء .. ليس في العقل الذي ظل يعمل .. إجابة لهذا السِؤال .. كما ليس في الرياضيات إجابة عن حاصل قسمة عدد على الصّفر .. تنشط الذاكرة رويدا رويدا و تتكاثر أسئلة إجاباتها سرعان ما تلغيها لحظة العدم المسيطرة .

     تحاول الأسئلة أن تخرج من حلقة مفرغة تدور فيها ، بأجوبة غير معرّفة .. بإجابات و صور تتبخّر في اللحظة ، تذوب في الدمار و الدهشة .. يريد العقل أن يعبُر بأسئلته إلى المستقبل ..كيف يستعيد بالصور التي استرجعها للتوّ حياة يحقّقها على هذه الأرض المسوَّاة و المدمرة ، لا شيء يعلو على قامته فيما يعتقد .. العقل يستشرف كل ذلك ، يريد أن يعبر إلى اللحظة التي تلي لحظة العدم ، يتقدّم شيئا فشيئا ، فيعيقه حجم الدّمار و الرّكام .. تتراكم الصّور من جديد و تزداد وضوحا ، لكنّها مجرد صور يستعيد بها مشهد الحياة قبل لحظة العدم ، من أين سيمكن له أن يبدأ .. كيف سيتمكّن من ترميم إنسانيته التي أطاحت بها وحشيته ..هل سيمكنه إدراك ما حدث؟؟ و يستوعب تسلسل الأحداث كما وقعت و يقف على الأسباب و يعي الأمور كما حصلت .. منجزاته التي أحدثها و مبتكراته و إبداعاته التي حقّقها لا يراها إلا صورا في خياله فقط ، و لكن لا حقيقة لها ..هل تستعيد قوة الإنسان مشهد الحياة الحقيقي ..و لكن لم تعد له قوة .. الإنسان أضحى مدمّرا ، الإنسان تحت الأنقاض ، الإنسان غدا مردوما ، الإنسان متبخر ، مفتّت و مصاب.. الإنسان متهالك لا طاقة له و لا قوة ، الإنسان الذي نجا من الفناء لا يغيب عنه الآن مصيره و لا الآثار المتلاحقة التي ستدمّره ، تبدّدت حقيقته .. 

   هل يريد في لحظة العدم أن يحلم من غير حقيقة و خارج الحياة ، أية حياة ، ترتدّ به أسئلته بصورها في الخيال و الذاكرة ، في التاريخ الذي وصل به إلى لحظة العدم .. تحاصره مشاهد الموت و أجساده ، لا شمس هناك و لا ضياء و لا سماء فوقه و لا زرقة ، لون أسود قاتم يغطي كل شيء و يحجب كل شيء و يلوّن كل شيء يلون الدمار ، كما يلون الحياة و يلون الأسئلة كما يلون الإجابات ، يطغى على الصور كما يهيمن على الحقائق ، و لكنّ العقل لا يزال ينبض بتلك الصور يريد أن يصنع و ينتج الأفكار .. يبحث عن حقيقة يؤسس عليها تعبر به إلى ما بعد لحظة العدم .. لكنّ هذه اللحظة اللعينة تقذف به إلى البدايات و في حلقته المفرغة العقيمة ، تجعله البدايات على حدّ النهايات ، تنقلب الأسئلة لديه ، تُطرح أسئلة و تعود أسئلة .. يسترجع شيئا من معالم المنطق ، يتسلسل في مساره و لكنّه يصطدم بلحظة العدم ما قبلها و ما بعدها ، أية نقطة لعينة ارتسمت على مَعلَمه ، هل هي نقطة مبدأ أم لحظة في سلّم الزمن .. تفيض الأسئلة و تتعاظم الحيرة و تتعقد المشكلة ، أين العقل .. هل لا يزال مدرٍكًا .. و لكنه لم يعد يعمل جيدا ، فقد طبيعته ، إنه الجنون ، إنه الجنون حتما .. الآن تضرب موجة الجنون ، آخرُ آثار الانفجارات التي تراتبت في سلسلة الأفعال التدميرية ، كما يكون الجنون آخر مراحل حركة العقل بين علاقته و قطيعته الإنسانية ..

    

    و قبل أن يدوّيَ انفجار آخر تتبخٍّر فيه الأجساد لتتخلص من آثار الجنون الذي يسكنها .. امتدّت إليّ يد أمي الناعمة و هي توقظني ، لأشرب معها قهوة صباحية عطّرت أرجاء البيت ، مع فطائر لذيذة أعدّتها نستقبل بها يوما جديدا من أيام الحياة الجميلة.