و أنا أهم بالكتابة في الحب و ما أدراك ما الحب ، تداعت إلي كثير من أسئلة العجز و التثبيط من مثل ” ماذا ترك الأول للآخر ” .. ” و ماذا بإمكانك أن تضيف إلى ما أبدع فيه من سبق و من تفوّق ” و تمثلت قول الشاعر عنترة حبيب عبلة:
هل غادر الشعراء من متردم أم هل عرفت الدار بعد توهم فعلا ، هل ترك المتكلمون و الشعراء و الأدباء لنا شيئا في الحب لنقوله ، و هل أغفلوا أمرا فنعمل فيه الفكر و اللسان و القلم و نخرج منه بشيئ جديد .
كنت أريد أن أحول أسئلة العجز إلى أسئلة حيرة مستفزة .. هناك فقط سأهتبل سانحة الإبداع و أخطف خاطرة الفكر أسكّ بها كلمات جديدة و أصوغ فيها رؤية و منطقا ، مثلما في نظر المتصوفة ، الحيرة هي أول المعرفة و هي آخر المعرفة كما قال بعض العارفين .
و عند أسئلتي التي هي لحد الساعة أسئلة عجز لا حيرة ، لم يغب عن ذهني ما يكرّره علي دائما أحد الأصدقاء أيضا و هو يدعي بيقين أنه لا يوجد شيء اسمه الحب إلا حب الذات و الفناء فيها و حب ما ينفعها و يجلب لذتها و راحتها و يمنحها توازنها ، و هو ما تجده في محبة الآخرين ، فلا تحب أحدا إلا و أنت تحب نفسك فيه ليس أكثر من ذلك و لا أقل ، مستثنيا من ذلك حب الشهداء لأوطانهم و رسالاتهم التي بذلوا تلك الأنفس في سبيلها ، فذلك في نظره الحب الحقيقي الوحيد ..
و رغم أنني لم أكن أوافقه كامل الرأي ، إلا أنني أعترف أن في كلامه شيئا من الصــــواب و الحقيقة فنحن على الأقل نحب لنوهب الحـــب و ننتظر أن يعطينا أحد مثل ما يأخذ منا .
قالوا و قرأنا ، أصدق الحب الحب على المكاره و العوائق ،و أشد الحب الحب الصعب و ربما المستحيل الذي يكثر أعداؤه و أضداده و الرياح التي تجري في غير اتجاهه و كلما مازج العاطفة الألم و الشدة ازدادت قوتها و تأججت نارها حتى إذا بلغت الموت و الجنون كان الحب الذي لا حب بعده .
و هو ما ترويه لنا حكايات مجانين الحب و مصارع العشاق ، تلك الكلاسيكيات المعروفة في الثقافات المختلفة التي رسمت نموذجا للحب ، تتوالى و تتشكل أحداثه تراجيديا فينتهي غالبا بالموت أو الجنون و هي النهايات التي خلدت القصة و النموذج معا و زرعت في اللاوعي إحساسات تمتزج تأثيراتها بآثار العاطفة القوية لدى المحبين فتتحول سقما يهدد بذهاب الروح و علة تنتهي بزوال العقل .
فلسفة الحب هذه قائمة على البعد الذي يسبب الألم و على الفقد الذي يفضي إلى العدم ، فإذا بلغ الألم حدا لا يطاق و لا يتحمل و لم يذهب بالنفس موتا ، ذهب بالعقل جنونا و خبلا .
و كأن حبا ليس بهذه المقاييس و المواصفات ليس حبا ، لا يخلِّد الحب إلا الألمُ و المعاناة و بقدر المشقة يعظم الحب أو يتلاشى و يزول .
هذه رؤية كلاسيكية في تحليل هذه العاطفة ، سأقول الجميلة ، رغم وجود ثالوث الألم و الموت و الجنون .. بتلك الرؤية هناك من يستعذب العذاب .
في المجتمعات المتحررة التي لا تفرض قيودا على علاقة الرجل بالمرأة و الولد بالبنت ، ستختلف طرائق الحب و مظاهره و سيصبح متيسرا نشأة هذه العلاقة و تكوينها مبكرا و تنوعها و تقلبها .
و لنا أن نجد أن هذا النوع من الحب حبا سهلا ، لا تعارضه هناك تقاليد أو أحكام اجتماعية أو دينية ، و لكن ذلك لا يعني أن تلك المجتمعات المنفتحة جدا لا يعيش أفرادها في علاقاتهم حبا حقيقيا تشتد فيه العاطفة و تصدق و تتسامى فيها الأحاسيس و ترق و تلج به الأرواح عوالم الأحلام و الخيال ..
غير أنه و إن لم تكن للرقابة و المنع و التضييق سلطة و سطوة في تلك المجتمعات ، فهناك بهارات أخرى تتيح للحب أن يكون شديدا متــقدا و هي بقدر ما تضفي من العنت و الألم داخل العلاقة و تسبب من الترك و التــــــــــــفرق و الفقد .. بقــدر كل ذلك سيتحول الحب إلى نوع من المقاساة اللذيذة و المعاناة الممتعة ، طالما استمسك المحبون بخيط الأمل الذي يبقيه حيا و لو مجنونا .
لعل ذلك ما تتيحه العلاقات المتعددة و و تيسّرها و انفتاحها و الخيانات فيها و المغامرات التي تنهك القلوب العاشقة و ليس بالضرورة أن تطيح بعلاقات المحبة بين العشاق و لكنها ستبذر فيها الألم و تظلل أوقاتها بالحزن و الاضطراب .
الحب في مرحلة ما يصبح كالسكين المنغرزة في القلب ، و التي ستفضي حتما إلى الموت و الهلاك إن تركت ، و لكن نزعها سيعجل يالنهاية ، فيصبح الحب سكين الحياة من حيث هو سكين القتل .
جميل و بائس أيضا أن ترى محبا رجلا أو امرأة يذوب جوى كما يقال في من يحب و قلبه لا يستطيع أن يحب أحدا غيره ، حب الإنسانية طبعا ، بل و يكره جميع الناس سواه و تمتلئ نفسه حقدا على الآخرين و على العالم ، هنالك يتبين أن مثل هذه الأنفس مريضة تحب ذاتها و لا تطلب إلا شهوتها فيمن تدعيه حبيبا و لا تلاحق إلا منفعتها فيما تحسبه حبا و عشقا ..
سيقول الكثيرون ، دعك من الحديث عن الحب و هل مازال في الناس شيء هكذا اسمه ..فالحب يبنى على الصدق و لم يعد هناك نفوس صادقة ، و يعتمد على الإخلاص و قد غلبت في هذا الزمن الأنانية و الخيانة و الغدر ، فأين الحب الذي تتكلم عنه ..
الحب يا هذا – هكذا سيقولون – هو أول السذاجات التي ننخدع فيها عند أول الطريق و بدايات الحياة و نحن نفتقد التجربة و الدراية و تعوزنا الخبرة و الإحاطة بألاعيب الناس و طوايا نفوسهم الخبيثة .. فأين الحب ..هو ليس إلا حديث المراهقين في مقتبل العمر أو في معترك الحياة و هو ليس إلا أفيون غير الجادين و الكسالى في هذه الزمن العملي السريع و المجرد ، و هو ليس إلا أغنية الأغبياء و الضعفاء .
لست أدري في الحقيقة ما الذي يدفع هؤلاء لقول ما يعتقدون ، هل جربوا عاطفة الحب و انخدعوا فيها و اكتتوا بنارها و انقلب عليهم سحره و وعوا درسه ، أم أن نفوسهم و قلوبهم لم يتح لها بعد لأن تسري فيها أحاسيس المحبة و العشق و الأنس بالحبيب و الشوق و الصــــــبابة و غير ذلك من أشكال الانصهار و الذوبان التي تستعصي عليها القلوب المتحجرة و المنغلقة ، و لم تحن بعد الساعة التي يتغير فيها العالم في أعينهم و قلوبهم و تتبدل فيها نظرتهم للأشياء و للحب أيضا .
في انتظار ذلك سنحترم آراء ذلك الفريق من الناس و هم كثير كثرة الشر الذي يترصد العالم و الحياة ، و كثرة الحب الذي يؤمن به فريق آخر من الناس .
يرون الحب أعظم غاية وجدت لأجلها الحياة ، و تركبت بها الإنسانية في جوهرها و مظهرها و أجمل نعمة يحي بها الإنسان و أفضل ما يتقدم بالشكر عليه .. الحب عند هؤلاء معنى تُتذوق به الحياة جميلة دفعة واحدة ، و دفقة مزجاة من الجمال في صــــوره و اللذة في إحساسها و السمو الروحي في معناه ، الحب ورود بأشواكها و تسمى وردا و ليس شوكا .. الحب ألم و معاناة نعيشه أملا و نحياه متعة و نتـــــــخذ من عذابه عذوبة تحلو بها ساعاتنا في كنف الحب و رفقة الحبيب
الحب أسطورة نستطيع أن نحققها و نراها ، و سحر يمكننا أن نشيعه في عالم الناس جمالا و لونا و عطرا ..
الحب قبس من عالم المثال يضيء حياة الواقع و لا تزيده عتمة ليله إلا إشعاعا لنوره و تأجيجا لناره .
الحب يا هؤلاء و يا هؤلاء قصة طويلة من غواية التفاحة التي ألقت به من جنة المثال إلى واقع الحياة لتعطيه معنى الحياة و معنى الحقيقة و لتعرفه معاني الألم و الجنون و الموت .
لم يدفع بي إلى الكتابة عن هذا الحب إلا إلحاح بعض الأصدقاء أن أكتب شيئا عنه ، و لكم أن تصدقوني إن أردتم ذلك ، فقد يشك أحد و يقول أني أكتب متخفيا وراء إلحاح الصديق و أبرر بطلبه الخوض في هذا الموضوع ، و هي نفس الفكرة التي احتال بها الفقيه ابن حزم – على رأي البعض – و هو يؤلف كتابه طوق الحمامة في الألفة و الألاف ، أول دراسة عربية في أوربا في سوسيولوجيا الحب ، حينما أشار إلى أنه كتب كتابه مجيبا لرغبة صديق له في أن يؤلف رسالة في الحب ..” .. فبادرت إلى مرغوبك و لولا الإيجاب لك لما تكلفته ”
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق