ليفة زجاجية قطرها يقل عن قطر شعرة الإنسان، استطاعت خلال الثلاثين سنة الماضية أن تغير شكل العالم الذي نعيش فيه الآن. إن فكرة نقل المعلومات بالضوء لمسافات بعيدة فكرة قديمة استغرقت وقتًا طويلا حتى تحققت في أوائل السبعينيات بواسطة كابلات الألياف الزجاجية؛ كي تحل محل نقل المعلومات بالإشارات الكهربائية بواسطة الكابلات النحاسية.
هذا التطور بإنتاج الألياف الزجاجية -بجانب التطور في أجهزة الإرسال باستخدام الليزر التي تحوِّل الإشارة الكهربية إلى إشارة ضوئية من ناحية، وأجهزة الاستقبال التي تحوِّل الإشارة الضوئية ثانية إلى إشارة كهربائية من الناحية الأخرى- استطاع تفجير ثورة في شبكة الاتصالات، وسرعة نقل المعلومات.
وخلال العقود الثلاثة الماضية تم بناء شبكات الاتصالات في جميع أنحاء العالم بكابلات الألياف الزجاجية على شكل كابلات أرضية أو هوائية، أو كابلات للاستخدامات تحت البحار والمحيطات. إلا أن أطراف الشبكة -أي من 1 إلى 3 كيلومترات- قبل نقطة المشترك تركت كابلات أسلاك نحاسية؛ وذلك لأن سعة نقل المعلومات في هذه المنطقة غير أساسية، وأيضًا بسبب التكاليف.
حكاية الليفة البصرية
رغم أن عمر الليف الزجاجي قصير نسبيًّا فإنه مَرَّ بالعديد من مراحل التطوير؛ ففي أوائل السبعينيات استطاعت شركة "كورنينج" (corning) بالولايات المتحدة إنتاج أول ليفة زجاجية تصلح للاستخدام في نقل الخطوط التليفونية. وكان مستوى الفقد في شدة الضوء بهذا الوقت تصل إلى حوالي 20 ديسيبل في الكيلومتر. أما اليوم فلا يتعدى هذا الفقد 0.2 ديسيبل في الكيلومتر، علمًا بأن 3 ديسيبلات فقد في الكيلومتر يعادل 50% فقد لشدة الضوء.
والليفة الزجاجية fiber glass -التي تسمى أيضا الليفة البصرية fiber optic - تتكون من قلب من الزجاج النقي قطره 10 ميكرومترات، وغلاف محيط أيضًا من الزجاج النقي، ولكن معامل انكساره (النسبة بين سرعة الضوء في الفراغ وسرعة الضوء في هذه المادة) أقل من معامل انكسار القلب الذي يصل قطره إلى 125 ميكرومترا. وهذا الاختلاف في معاملي الانكسار هو ما يؤدي إلى سريان ضوء الليزر الذي يضخ في قلب الليفة لمئات الكيلومترات قبل أن يفقد شدته. وتغلف الليفة الزجاجية بمادة البلاستيك؛ وذلك لحمايتها وجعلها مرنة.
ولصناعة ليفة زجاجية يُصنع أولا عمود سميك من الزجاج النقي، مكون من القلب والغلاف الزجاجي، ثم يسخن طرف هذا العمود الزجاجي إلى درجات حرارة عالية (2000 درجة مئوية) حتى ينصهر الزجاج، ويسحب إلى أسفل في برج يسمى برج السحب (drawing tower) حتى يصل قطره إلى الأبعاد المطلوبة، ثم توضع طبقة البلاستيك حول الليفة الزجاجية، ثم يلف على بكرات بالطول المطلوب. هذه البكرات تستخدم بعد ذلك في تصنيع كابلات الألياف الزجاجية.
ولتثبيت الكابلات الأرضية يتم الاستعانة ببكرات كبيرة تحتوي على حوالي 10 كيلومترات كابل ألياف زجاجية، وبعد تركيب الكابل في مكانه تحت الأرض يجب لحام الألياف الزجاجية كل 10 كيلومترات، ويستخدم لهذا الغرض جهاز لحام بالانصهار (fusion splicing). ولأن عملية اللحام تتم بحيث إن كل قلب لليفة يلتحم بالقلب الآخر تمامًا (10 ميكرومترات)، يتم اللحام آليًّا بواسطة كمبيوتر داخلي في جهاز اللحام.
وتتميز الكابلات الزجاجية عن مثيلتها النحاسية في الكثير:
- فسعتها أكبر بكثير؛ بحيث يمكننا خلال ليفة زجاجية واحدة نقل أكثر من 150 ألف خط تليفوني في نفس الوقت.
- كما أن الفقد لكل كيلومتر أقل بكثير في الألياف الزجاجية مقارنة بالكابلات النحاسية، وبالتالي لا نحتاج إلى أجهزة تقوية كثيرة، وهذا يقلل التكاليف.
- كابلات الألياف الزجاجية أكثر مرونة، ووزنها أقل، وأبعادها أقل مقارنة بالكابلات النحاسية، وبالتالي تقل تكاليف الإنتاج والتركيب والصيانة.
- الألياف الزجاجية لا تتأثر بالموجات الكهرومغناطيسية الخارجية، ومعنى هذا أن المعلومات تنتقل بدون تشوهات.
- أيضًا من الصعب التنصت على كابلات الألياف الزجاجية، ولهذا يفضل استخدامها في التطبيقات العسكرية والإستراتيجية.
الإنترنت والشعرة السحرية
فقبل هذا كان الإنترنت محدودًا استخدامه في بعض الشبكات المعزولة لأغراض عسكرية وإستراتيجية في الولايات المتحدة. وفي نفس الوقت انتشر استخدام أجهزة الكمبيوتر الخاصة انتشارًا كبيرًا في أنحاء العالم، وأصبحت سرعة نقل المعلومات في الإنترنت تبدأ بـ56 كيلوبت/ثانية في المنزل للمشترك الذي يستخدم مضمن "modem" للاتصال بالإنترنت، وترتفع عندما تصل إلى خطوط الكابلات بالألياف الزجاجية؛ كما هو الحال في الكابلات تحت المحيطات إلى 2.5 جيجابايت لكل ثانية.
وبهذا عزيزي القارئ نرى أن فكرة ابتكار الليفة الزجاجية لنقل المعلومات بالضوء فجَّرت ظهور الإنترنت الذي ينسج خيوطه حول العالم كشبكة العنكبوت، ويستخدم في أغلب خيوطه الشعرة السحرية (الليفة الزجاجية) التي تنقل المعلومات بسرعة فائقة؛ ليحوِّل العالم إلى قرية صغيرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق